… نازعتني إليه في الخلد نفسي
بقلم الدكتور عوض أحمد العلقمي
ربما نجد الشعراء والأدباء هم الأكثر ولعا وهياما بحب أوطانهم ، أليس الأمر كذلك ياياسر ؟ كلا ياصديقي ، فأنت تعلم كم أحب وطني ، لكنني لاأستطيع التعبير عن ذلك الحب لا بالقلم ولا بالكلمة الساحرة ، فأنتم معشر الأدباء والشعراء تتميزون عنا بقدرتكم على التعبير عن حبكم لأوطانكم ؛ أكان ذلك بالبيان أم بالشعر ، ألم يقل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : ” إن من البيان لسحرا ” ثم ألم تقل العرب : علموا أولادكم الشعر فإنه ديوان العرب ، لكن قل لي بربك ما الذي ذهب بك إلى هذا الأمر ياصديقي ؟ ونحن عائدون من الخساف ياياسر ذهب عقلي يغوص في أعماق الذاكرة ويستحضر الماضي ، فوجدت نفسي أحلق أعالي مقابر الشهداء من الآباء الذين سقطوا من أجل تحرير هذه البلاد واستقلالها ، وما إن ولجنا بوابة عدن باتجاه المعلا حتى أخذت بصري واستهوت بصيرتي هذه المناظر الساحرة التي أطلينا عليها فجأة … وهنا عرج بي الخيال في فضاء حاضرة الشرق (مدينة الاسكندرية) فرأيت أمير الشعراء وهو عائد من المنفى على السفينة وقد بدت أمام ناظريه أعالي بعض البنايات وقلعة المماليك وسارية الفنار ، الأمر الذي فجر القريحة الشعرية لدى شوقي فقال قصيدة وطنية جيدة ؛ منها قوله :
وطني لو شغلت بالخلد عنه ** نازعتني إليه في الخلد نفسي
لكنك لم تحدثني ياصديقي عن المشاهد الخلابة التي استهوتك بعد أن خرجنا من بوابة عدن باتجاه المعلا ؟ حقا ياياسر إن عيون الشعراء والأدباء هي – في الغالب – السباقة إلى التقاط الصور الجميلة المعبرة عن جمال الطبيعة وسحر الأوطان … ماذا تعني بقولك هذا ياصديقي ؟ أعني ياأخ ياسر أنك لم تشاهد ما أشاهد أنا ، وماهو الذي تشاهده أنت ياصديقي ؟ انظر على شمالك كيف يحتضننا جبل شمسان ، إننا منه كالطفل محمولا على ورك أمه ، وانظر أمامك ياياسر مدينة المعلا وكأنها تتكئ على شمسان خوفا من غدر البحر ، ثم مد نظرك إلى مابعد المعلا ، ألا ترى البحر كيف يطوق المعلا ؟ وانظر في البحر ألا ترى معي ثلاث جزر ؛ جزيرتين صغيرتين من الشمال وهما عبارة عن طورين بارزين من الصخر ، وأخرى من اليمين لكنها طور صخري كبير ، يكبر الجزيرتين الصغيرتين من حيث المساحة والارتفاع ، وإذا مانظرت إليهن الثلاث ، فإنهن كشيخ جالس يعظ طفليه الجالسين أمامه … لكن إذا مانظرت على يمينك ياياسر فالأمر مختلف ، وماوجه الاختلاف ياصديقي ؟ انظر على يميننا جبل حديد ، إنه أسود اللون ، متفحم ، كأنه جسم صلب مكث زمنا في السعير ، يمتد جبل حديد من الشمال إلى أن يصافح جبل شمسان جنوبا ، عبر بوابة عدن ، عليه وفيه شبكة من الأنفاق والأسوار والتحصينات ، بدا عليها عظمة البناء وقوته فضلا عن مهارة البنائين ، لا أحد يعلم يقينا متى بنيت هذه التحصينات ، ومن الآمر بالبناء ؟ وكذلك لانعلم من أين استجلبت تلك الأحجار القوية والجميلة في الوقت نفسه التي تشبه أسنان الطفل دون السنتين في اصطفافها ونصاعتها وجمالها ، غير أنها تعاني من هجمات شرسة ومتتالية من عوادي الدهر ، الأمر الذي جعلها على وشك الهزيمة ثم الاختفاء تماما ، إذ ستصبح قريبا أثرا بعد عين ، ونحن لانكترث لذلك وكأن الأمر لايعنينا ، حسبي الله ونعم الوكيل … كفي ياصديقي فقد أدهشني وصفك الجميل لهذا الشيء اليسير من معالم عاصمتنا الجميلة أولا ، ثم أدميت قلبي بإشارتك إلى عدم الاكتراث لحضارة تدمر وتختفي ولتاريخ يهمل وينسى …….والذي لا يهتم لماضيه لا يصنع حاضره …